The crime of cross-border diversion committed by a Tunisian national
يتميز المجتمع البشري في الزمن الحاضر باختصار المسافات التي تربط بين أفراده الأمر الذي وسع من وتيرة المعاملات و وسع من مجالها فأصبح عابرا للحدود وللسيادات الوطنية والإقليمية. وفي ظل انفتاح الأنظمة القانونية على بعضها احتد التنازع بينها بمناسبة العلاقات المتضمنة عنصرا أجنبيا حول السيادة القانونية التي يجب ان تحكمها وهو التنازع القانوني وحول السيادة القضائية التي يجب ان تحسمها وهو التنازع القضائي. وقد كان القانون الدولي الخاص الذي جمعت أحكامه في تأليف واحد بإسم « مجلة القانون الدولي الخاص » بموجب القانون عدد 97 لسنة 1998 المؤرخ في 27 نوفمبر 1998 فرع من فروع القانون التي سعت إلى إيجاد مقاربة قانونية وتقنية تتيحان حل الإشكالات القانونية المعقدة التي تنتج عن العلاقات الدولية التنازعية بين أشخاص القانون الدولي الخاص وتقدم حلولا للتنازع الذي يمكن ان تطرحها بين الأنظمة القانونية والأنظمة القضائية[1] . على أن مجال القانون الدولي الخاص ارتبط بالعلاقات القانونية الدولية الخاصة. ورغم ان المشرع لم يعرف المقصود بالعلاقة القانونية مكتفيا بالتركيز في الفصل الثاني من مجلة القانون الدولي الخاص على معايير الطابع الدولي لهذه العلاقة فإنه يمكن اعتبارها العلاقات التي تنشأ بين الأفراد ويعترف القانون بها ويحميها. وبالتالي فإن الجرائم لا يمكن ان تكون مجال لانطباق أحكام القانون الدولي الخاص باعتبارها لا تصنف ضمن العلاقات القانونية وان كانت عابرة للحدود. فالجريمة عمل غير مشروع يعاقب عليه القانون لأنها تعتبر تجاوزا لكافة الأحكام القانونية. وتعرف أيضا بأنها انحراف وخروج عن المعايير والمبادئ الأخلاقية والدينية من اجل تحقيق هدف لا يتوافق مع التشريعات والنصوص في القانون مما يؤدي إلى حدوث نتائج ذات تأثيرات سلبية على الأفراد والمجتمع.
وقد اخضع المشرع الجرائم العابرة للحدود إلى أحكام خاصة ضمن مجلة الإجراءات الجزائية وتحديدا ضمن الباب السابع من كتابها الرابع المخصص لبعض إجراءات خاصة والذي يحمل عنوان « في الجنايات والجنح المرتكبة بالبلاد الأجنبية ». وقد تعرض المشرع ضمن هذا الباب إلى عديد الوضعيات التي يمكن ان تطرحها الجريمة المرتكبة خارج تراب الإقليم التونسي و التي يكون فيها تونسي الجنسية طرفا فيها سواء بوصفه متهما أو بوصفه متضررا بل تطرق حتى للوضعية التي قد ينال فيها خطر الجريمة لاـ « مواطن تونسي » بل الدولة التونسية وأمنها كما في صورة الفصل307 من مجلة الإجراءات الجزائية.
وجريمة التحيل هي من جرائم الأموال التي تطرح بكثرة على الصعيد الدولي باعتبار عدم ارتباط الفعل المادي لها بحدود جغرافية معينة ثم كذلك لتطور وسائلها وتقنياتها الحديثة التي عززت صبغتها العبر حدودية وأخيرا لامتداد شبكة المتداخلين في مثل هذه الجرائم وتعدد أطرافها عادة. وهذه الجريمة التي ترجع بالنظر إلى القانون الجزائي الداخلي عند ارتكابها من تونسيين داخل حدود الوطن تطرح تساؤلا حول مدى تطبيق القانون الجزائي في المكان حينما يكون التونسي قد ارتكبها خارج حدوده. فما هو إذا نظام جريمة التحيل المرتكبة عبر الحدود المتهم فيها تونسي الجنسية ؟
إن مثار هذه الإشكالية يرجع إلى وقائع مطروحة أمام المحاكم التونسية تتعلق بجريمة تحيل كبيرة ارتكبها تونسي الجنسية بفرنسا وكان ضحيتها عدة أشخاص أجانب. وتمثل وجه التحيل في كون المتهم التونسي الذي كان إماما بجامع بضواحي باريس وكان يلقي الدروس الدينية وينظم رحلات للحج والعمرة مع والده أوهم ضحاياه بكونه يتولى القيام بعمليات مضاربة بالبورصة تدر أرباحا طائلة لابتزاز مبالغ كبيرة منهم. وقد كان هذا الأخير يقنعهم في كل مرة بكونه سيتولى ارجاع المبالغ والأرباح لهم بعد مدة معينة على أن هذا الأخير تولى بعد ذلك الرجوع إلى تونس مسقط رأسه وهو يقيم فيها الآن.
ويتطلب تحليل جريمة التحيل المرتكبة بالبلاد الأجنبية من قبل تونسي الجنسية التعرض في مرحلة أولى إلى القضاء المختص بالنظر فيها( I) ثم تحديد شروط قيام الجريمة الموجبة للتتبع ( II) .
- الاختصاص القضائي لجريمة التحيل المرتكبة من تونسي الجنسية خارج البلاد التونسية :
تطرح الجرائم المرتكبة خارج حدود الدولة التي ينتمي إليها المتهم مسألة تطبيق القانون الجزائي في المكان. وتحديد نطاق تطبيق القانون الجزائي في المكان يكتسب أهمية كبرى بالنظر إلى انه يجنب المحاكم حالات تنازع الاختصاص والتي يمكن ان تكون حالات تنازع اختصاص ايجابي أو سلبي. ولئن كان الأصل في القانون الجزائي هو اعتماد مبدأ الإقليمية في تحديد المحكمة المختصة جغرافيا بالنظر في الجرائم المرتكبة وتتبع فاعليها فإن المشرع في خصوص الجنايات والجنح المرتكبة خارج البلاد التونسية اتبع منهجا آخر يقوم على مبدأ الشخصية كرسه الفصل 305 م ا ج .
- انطباق مبدأ الشخصية على جريمة التحيل المرتكبة من تونسي الجنسية خارج تونس و استبعاد القاعدة الإقليمية:
ان سيادة الدولة على إقليمها تقتضي ألا يسري غير قانونها الوطني على ما يرتكب فيه من جرائم وألا يمتد تطبيق ذلك القانون إلى خارج حدود إقليمها مبدئيا. فمبدأ الإقليمية هو إذا نتيجة حتمية لمبدأ السيادة. فالدولة تمارس سيادتها على إقليمها و يكون ذلك بمنحها الاختصاص المطلق للنظر في كل ما يحدث عليه من جرائم. وهذا يعني ان المحكمة التونسية تبسط اختصاصها على جميع الجرائم التي ترتكب على الإقليم الخاضع لسيادة الدولة سواء كان مرتكبه مواطنا أم أجنبيا وسواء نالت من مصلحة الدولة صاحبة السيادة على الإقليم أم نالت من مصلحة دولة أجنبية.
ومبدأ إقليمية القانون الجزائي هو مبدأ إقصائي يقتضي الاختصاص المطلق للدولة ومختلف قوانينها الخاصة تجاه الجرائم التي وقعت داخل حدود إقليمها وهو مبدأ جامع وعام للاختصاص التشريعي والقضائي للدولة. ورغم ان المشرع التونسي لا يكرس هذا المبدأ بشكل صريح على غرار عديد التشاريع الأخرى فإنه يمكن استنتاجه من الفصل 305 م ا ج.
ويقصد بالإقليم هو ذلك الحيز المكاني الذي تستأثر به الدولة وتمارس عليه سيادتها بصفة دائمة ومستمرة. ويشمل الإقليم البري والفضاء الجوي والإقليم البحري. على ان القول بقاعدة الإقليمية التي هي الأصل في ضبط الاختصاص القضائي والجزائي للمحاكم التونسية لا يمنع من وجود قواعد أخرى داخل م ا ج تطرح « اختصاصا احتياطيا » لمحاكمنا التونسية بالنسبة للجرائم المرتكبة خارج إقليمه على غرار جريمة التحيل. فالمشرع التونسي لم يمنع نفسه حتى بالنسبة للجنح والجنايات المرتكبة في البلاد الأجنبية من التدخل معتبرا ذلك من قبيل « الإجراءات الجزائية الخاصة »[2] وقد جاء في الفصل 305 م ا ج في هذا الصدد انه » يمكن تتبع ومحاكمة المواطن التونسي من طرف المحاكم التونسية إذا ارتكب خارج تراب الجمهورية جناية أو جنحة يعاقب عليها القانون التونسي إلا إذا تبين أن قانون البلاد المرتكبة بها الجريمة لا يعاقب عليها أو أثبت المتهم أنه سبق اتصال القضاء بها نهائيا في الخارج وفي صورة صدور الحكم عليه بالعقاب أنه قضى العقاب المحكوم به عليه أو أن هذا العقاب سقط بمرور الزمن أو شمله العفو.
وتنطبق أحكام الفقرة المتقدمة على الفاعل الذي لم يكتسب صفة المواطن التونسي إلا بعد تاريخ ارتكابه الأفعال المنسوبة إليه »
***و يعتمد المشرع في صورة ارتكاب التونسي لجناية أو جنحة خارج حدود الوطن مبدأ الشخصية. ويعتبر مبدأ الشخصية تاريخيا الأصل في تطبيق القانون الجزائي إلا انه أصبح اليوم من المبادئ المكملة لمبدأ الإقليمية في حالة ارتكب احد مواطني الدولة جريمة في إقليم دولة أجنبية وعاد إلى وطنه الأم كما حصل في وقائع جريمة التحيل التي ارتكبها تونسي خارج الحدود والتي هي محل أنظار المحاكم التونسية. ويقتضي هذا المبدأ ان سلطة الدولة لا تتوقف على ارتكاب الجريمة بإقليمها بل تمتد لتشمل التي يرتكبها مواطنوها خارج حدود الوطن. كما أنها تسري كذلك حتى على الحالة التي يكون فيها المواطن التونسي متضررا. فمبدأ الشخصية المعتمد إذا في المنظومة التونسية والمكرس أحكامه في الباب السابع من الكتاب الرابع من مجلة الإجراءات الجزائية له وجهان: الاختصاص القضائي بالجرائم وتحديد الجنايات والجنح التي ترتكب من تونسي الجنسية في الخارج مرجع الفصل 305 م ا ج والاختصاص القضائي بالجرائم التي فيها اعتداء على مواطن تونسي أي التي يكون فيها تونسي الجنسية متضررا لا متهما مرجع الفصل 307 من نفس المجلة. ويتجه البعض إلى تبرير اعتماد مبدأ الشخصية بالنسبة للجرائم المرتكبة في الخارج بفكرة التعاون الدولي لمكافحة الجريمة لان اغلب الدول لا تسلم رعاياها فيصبح المجرم بدون عقاب بعد ارتكابه لجريمة في الخارج وتحصنه بأرض دولته ويضيف نفس الفقه « انه من العدل ان يظل المواطنين مسؤولون لدى دولتهم عن أفعالهم الإجرامية التي من شأنها ان تضر بسمعتها بالخارج »[3].
ويطرح المشرع في الفصل 305 م ا ج أربعة شروط لتتبع تونسي من اجل جريمة ارتكبت خارج حدود الدولة التونسية:
- ان يكون الجاني تونسي.
- ان يتواجد المجرم على إقليم دولته.
- ان تكون الجريمة طبق القانون التونسي من صنف الجناية او الجنحة.
- أن يكون الفعل مجرما في تونس وفي مكان ارتكابه
أما فيما يتعلق بشرط الجنسية التونسية فهو يعني إقصاء الاختصاص القضائي للمحاكم التونسية إذا كان المتهم أجنبي وهو أمر منطقي طالما ان الجريمة قد ارتكبت خارج الدولة التونسية بحيث انه لا يوجد أي رابط شخصي أو موضوعي يبرر نظر هذه المحاكم بها.
والجنسية علاقة ولاء تربط الفرد بالدولة لذلك تعرف بأنها الانتماء القانوني للشخص لمجموعة مّا تكوّن دولة وهي أساس ولائه للوطن الذي يهبه الجنسية وما ينتج عنها من آثار. ويعرفها كذلك بعض الفقهاء بأنها رابطة قانونية وسياسية تفيد اندماج الفرد في عنصر السكان بوصفه من العناصر المكونة للدولة. وتكتسي الجنسية أهمية بالغة بالنسبة للإنسان فهي الارتباط الإنساني والذي يأتي في قيمته الأدبية بالنسبة للصغير مباشرة بعد الارتباط الأسري ويتقدم جميع الارتباطات أيا كان نوعها بالنسبة للبالغ.[4] فهذا الارتباط هو احد أهم مكونات الشخصية القانونية للفرد لأنه يمثل احد أهم عناصر هويته. ومصلحة الفرد في اكتساب الجنسية توازي مصلحة الدولة في تحديد موطنيها. ويتسم إسناد الجنسية التونسية عموما باليسر وعدم التشدد.[5] ويطرح شرط الجنسية بالنسبة للجرائم المرتكبة من تونسيين خارج الدولة التونسية عدة صعوبات خاصة إذا تمسك المتهم بعدم انتمائه للجنسية التونسية. لهذا، فإن مسألة إثبات جنسية الفاعل تبقى من مشمولات النيابة العمومية بوصفها جهاز تتبع في الدعوى العمومية. وقد نص الفصل 50 من مجلة الجنسية على انه إذا أثير لدى محكمة زجرية احتجاج بالجنسية التونسية أو بصفة الأجنبي فعلى المحكمة ان تضرب أجلا قدره ثلاثون يوما قصد القيام بقضية لدى المحكمة المختصة. علما وان الدفع بفقدان الجنسية يوقف نظر القاضي الجزائي إلى حين صدور الحكم المدني. وإذا انقضى اجل 30 يوما المشترط في الفصل 50 من مجلة الجنسية دون إثارة الإشكال المتعلق بالجنسية أمام القاضي المدني فإن القاضي الجزائي يستأنف التتبع. غير انه يمكن بحسب الفقه للقاضي الجزائي ان يمنحه أجلا إضافيا. لكن ماذا لو ان المتهم لم يكن حاملا للجنسية التونسية حين ارتكاب الجريمة لكن تغيرت جنسيته عند المحاكمة فأصبح تونسي الجنسية؟ أجاب المشرع عن هذه الفرضية في الفقرة الثانية من الفصل 305 م اج معتبرا انه يمكن تتبع و محاكمة الفاعل الذي لم يكتسب صفة المواطن التونسي إلا بعد تاريخ ارتكابه للأفعال المنسوبة إليه.
أما فيما يتعلق بالشرط الثاني وهو تواجد المجرم بإقليم دولته فهو بالأساس شرط فقهي ولكن هل يقصد بالتواجد على إقليم الدولة التونسية ان يكون له مقر معلوم بتونس بما يعنيه المقر من الناحية القانونية كعنصر من عناصر تحديد الاختصاص الترابي للمحاكم وكما ورد تعريفه بالفصل 7 من م م م ت أم يقصد به التواجد المكاني للمتهم بالتراب التونسي ولو لم يتوفر فيه شرط المقر؟ يتجه الرأي في هذا الخصوص إلى عدم اعتماد شرط المقر بمفهومه التقني الوارد بـ م م م ت والاكتفاء بمجرد إثبات تواجد المتهم مكانيا بالدولة التونسية بالنظر إلى غياب هذا الشرط الصريح في نص الفصل 305 م ا ج الأمر الذي يستدعي تأويله تأويلا ضيقا.
أما الشرط الثالث والمتعلق بطبيعة الجريمة المرتكبة فإن اكتفاء المشرع بتطبيق نص الفصل 305 م ا ج على الجنايات والجنح وإقصاء المخالفات من نطاق انطباقه فيبرره عدم أهمية هذا الصنف من الجرائم وآثاره على الدولة التونسية عند ارتكابها بالخارج.
وأخيرا يطرح الفصل 305 م ا ج شرط تجريم الفعل في مكان ارتكابه وفي تونس فينص على انه « يمكن تتبع ومحاكمة المواطن التونسي من طرف المحاكم التونسية إذا ارتكب خارج تراب الجمهورية جناية أو جنحة يعاقب عليها القانون التونسي إلا اذا تبين أن قانون البلاد المرتكبة بها الجريمة لا يعاقب عليها… ».
وتسمى هذه القاعدة قاعدة ازدواج التجريم لكن لا ضرورة لوجود تطابق بين القوانين. فمن الممكن ان يعطي القانون الأجنبي للوقائع تكييف مختلف ويطبق العقوبات بأقل أو أكثر شدة علما وان القانون الفرنسي لا يشترط ازدواجية التجريم إلا في الجنح دون الجنايات. وتتحمل النيابة العمومية عبء إثبات ان الفعلة التي ارتكبها المتهم منصوص عليها بالقانون الجزائي الأجنبي. كما ان شرط ازدواج التجريم يقتضي ان يكون الفعل مجرما عند التتبع وليس عند ارتكاب الجريمة.[6]
لكن هذا التتبع يسقط بحسب أحكام الفصل 305 م ا ج كلما اثبت المضنون فيه أنه سبق الحكم عليه بالخارج وانقرض مفعول هذا الحكم بالعفو أو بالتقادم . ويندرج هذا الحل ضمن مبدأ عام يقوم على عدم جواز المحاكمة عن الفعل الواحد مرتين.
وقد اقر المشرع هذه القاعدة في الفصل 132 م ا ج مكرر الذي جاء فيه « لا يمكن تتبع من حكم ببراءته من جديد لأجل نفس الأفعال ولو تحت وصف قانوني آخر ». و علة هذا المبدأ التشريعي ترجع إلى قرينة اتصال القضاء بالجريمة نهائيا ببلاد مكان الفعلة وهو ما أكدته محكمة التعقيب في العديد من القرارات على غرار القرار التعقيبي الجزائي عدد 101771 الصادر بتاريخ 10 مارس 1999 والذي جاء فيه « لا يعاقب الشخص مرتين من اجل فعلة واحدة اذ ان مبدأ اتصال القضاء يهم النظام العام ويستوجب على محكمة التعقيب بوصفها محكمة مراقبة حسن تطبيقه وإثارته ولو من تلقاء نفسها ومن باب أولى وأحرى إذا وقعت إثارته من قبل من له مصلحة في ذلك. »
وبالتالي فإنه لا يمكن ان تقع محاكمة تونسي فيما سبق مقاضاته من اجله من طرف محاكم الدولة الأخرى وإلا صار عرضة للمحاكمة مرتين من اجل فعل واحد وهو ما يتنافى مع ابسط قواعد العدل والإنصاف. لكن حتى يتفصى المتهم التونسي من هذه النتيجة فإنه يجب عليه ان يثبت لا فقط انه صدر عليه حكم من محكمة أجنبية اتصل به القضاء بل كذلك انه إما قضى العقاب المحكوم به عليه أو انه سقط بمرور الزمن أو انه وقع محوه بالعفو.
وبالتالي فإنه طالما ان المتهم التونسي كما في جريمة التحيل المرتكبة خارج تونس والمعروضة على محاكمنا من الجرائم التي تقرها جميع التشريعات الأجنبية بما فيها التشريع الفرنسي مكان ارتكابها فإن جريمة التحيل المرتكبة بالبلاد الأجنبية والتي يكون فاعلها الأصلي تونسي الجنسية ترجع بالنظر إلى اختصاص المحاكم التونسية خاصة أمام ثبوت تواجد هذا الأخير بالتراب التونسي بمسقط رأسه. لكن هل يمكن لهذا الأخير ان يدفع بانقراض الدعوى العمومية لإيقاف التتبع والمحاكمة؟
2- انقراض الدعوى العمومية و تأثيرها على تعهد المحاكم التونسية :
تنشأ الدعوى العمومية منذ ارتكاب الجريمة وتقع إثارتها بقصد تسليط العقاب على مرتكبها والمقصود بإثارة الدعوى العمومية أو تحريكها هو بداية السير فيها بتقديمها إلى المحاكم المختصة للبت فيها أي من العمل الافتتاحي للخصومة الجزائية التي تنطلق بتحرير الدعوى العمومية إلى صدور حكم بات فيها. لكن قد تنشأ بعض العوامل التي تؤدي إلى انقضاء الدعوى العمومية وقد تعرض المشرع في الفصل 4 من م ا ج إلى أسباب انقضاء الدعوى العمومية فنص على « تنقضي الدعوى العمومية:
أولا: بموت المتهم
ثانيا: بمرور الزمن
ثالثا: بالعفو العام
رابعا: بنسخ النص الجزائي
خامسا: باتصال القضاء
سادسا: بالصلح إذا نص القانون على ذلك صراحة
سابعا: بالرجوع في الشكاية إذا كانت شرطا لازما للتتبع… »
ويثير انقضاء الدعوى العمومية أهمية كبرى بالنسبة للجرائم المرتكبة من تونسي خارج البلاد التونسية بالنظر إلى كونه قد يكون منفذا للمتهم للتفصي من التتبع القضائي « التونسي ». وفي صورة التحيل المرتكب خارج البلاد التونسية المتهم فيها تونسي موضوع القضية المعروضة على محاكمنا التونسية فإن مسألة انقراض الدعوى العمومية تطرح في فرضيتين:
الفرضية الأولى نص عليها الفصل 305 م ا ج السابق شرحه وهي حالة اتصال القضاء. ففضلا عن إدراج هذه الحالة ضمن الحالات الهامة لانقراض الدعوى العمومية في الفصل 4 م ا ج فقد تعرض لها كذلك المشرع ضمن الإجراءات الخاصة المتعلقة بالجنايات والجنح المرتكبة بالبلاد الأجنبية في الفقرة الثانية من الفصل المشار إليه أعلاه إذ يسقط التتبع بحسب هذا النص إذا « …أثبت المتهم أنه سبق اتصال القضاء بها نهائيا في الخارج… »
أما الفرضية الثانية فتتعلق بمرور الزمن. ويقصد بمرور الزمن انقضاء فترة زمنية على ارتكاب الجريمة دون حصول أي عمل من أعمال التتبع فتسقط الدعوى العمومية بمضي المدة المقررة لها قانونا حسب الفصل 5 م ا ج. وقد جاء بهذا الفصل أنه « تسقط الدعوى العمومية فيما عدا الصور الخاصة التي نص عليها القانون بمرور عشرة أعوام كاملة إذا كانت ناتجة عن جناية و بمرور ثلاثة أعوام كاملة إذا كانت ناتجة عن جنحة وبمرور عام كامل إذا كانت ناتجة عن مخالفة وذلك ابتداء من يوم وقوع الجريمة على شرط أن لا يقع في بحر تلك المدة أي عمل تحقيق أو تتبع ». فالمبدأ إذا ان احتساب آجال التقادم يكون من يوم ارتكاب الجريمة لكن المسألة ليست بهذه البساطة. فقد يقطع اجل التقادم أعمال تحقيق وتتبع. كما قد تكون الجريمة من حيث ركنها المادي ليست بسيطة من حيث الأفعال التي تتطلبها ولا حينية من حيث زمن ارتكابها كما في جريمة التحيل بحيث يصبح تحديد بداية تاريخ سريان التقادم أمرا عسيرا الأمر الذي يجعل الدفع به في جريمة التحيل المرتكبة من تونسي خارج البلاد التونسية ضعيفا. فجريمة التحيل هي من الجرائم التي يستغرق ركنها المادي زمنا باعتبار أنها تقوم على إقناع المتضرر بخزعبلات التي يقوم بها المتهم قصد الاستيلاء على أمواله وهي مسألة تتطلب وقتا وجهدا بالنسبة لفاعلها. ولذلك فإن تحديد بداية سريان التقادم في شأنها ليس بالأمر اليسير. وقد جاء بالفقه في هذا السياق ان « تقادم الجريمة لا يبتدئ إلا من اليوم الذي يقوم فيه فاعلها بعمله الختامي المحقق لوجودها فيبتدئ التقادم في الجرائم التامة من يوم تمامها و في الجرائم المشروع فيها من اليوم الذي حصل فيه البدء بتنفيذها غير أنه قد قامت صعوبات فيما يتعلق بالجرائم المستمرة وجرائم الاعتياد والجرائم التي تتكون من أفعال متلاحقة داخلة كلها تحت غرض جنائي واحد ».[7]
وجريمة التحيل يمكن ادراجها ضمن الجرائم المستمرة إذ لا يحتسب مرور الزمن فيها بداية من تاريخ ارتكاب الجريمة بل بداية من تاريخ آخر أعمال تندرج ضمن الجريمة وهو ما أكدته محكمة التعقيب التونسية وكرسه كذلك فقه القضاء الفرنسي في احد قراراته المبدئية التي تعلقت بجريمة تحيل واسعة امتدت على خمس سنوات اعتمدت فيها المحكمة الفرنسية على تاريخ آخر عملية لاحتساب بداية جريان اجل سقوط الدعوى العمومية. و قد جاء في قرارها ما يلي :
« attendu que l’arrêt attaqué déclare établis à la charge du prévenu l’existence d’une « vaste escroquerie d’ensemble » dont les manœuvres ont été commises à partir de 1928 en exécution d’un plan concerté et dans le but commun d’obtenir des remises de fonds dont la dernière a été effectuée en 1933 date d’ouverture de l’information.
Attendu qu’en l’état de ces constations qui échappent au contrôle de la cour de cassation et desquels il résulte que les faits reprochés aux prévenus ont constitué une opération délictueuse unique la cour d’appel était fondée à fixer le point de départ de la prescription en 1933.. » [8]
وهو نفس الموقف الذي اتخذته كذلك لاحقا في خصوص احتساب اجل تقادم جريمة تحيل تطلب فعلها المادي القيام بخزعبلات بنكية والتي اعتبرت ان تاريخ سريان اجل التقادم لا ينطلق إلا من تاريخ غلق الحساب.[9]
على ان هذه المسألة تبقى راجعة بالنظر في تقديرها في نهاية المطاف إلى سلطة القاضي التقديرية بحسب وقائع القضية وملابساتها خاصة وان كانت الجريمة غير مرتبطة بإقليم الدولة التونسية كما في حالة التحيل المرتكب من تونسي خارج حدود الوطن .
- قيام جريمة التحيل المرتكبة من تونسي خارج حدود البلاد التونسية :
ان ثبوت خضوع التونسي المرتكب لجريمة التحيل خارج الحدود لنظر المحاكم التونسية كما اقتضاه الفصل 305 م ا ج يؤدي حتما إلى اعتماد النصوص التونسية في تحديد شروط قيام الجريمة وتحديد أركانها. وقد تعرض المشرع لجريمة التحيل في الفصل 291 من المجلة الجزائية. وقد جاء هذا الفصل تحت باب التحيل وغيره من أنواع الخداع. وهو يصنف ضمن الاعتداءات على الملك كما ورد بالباب الثاني من الجزء الثاني من المجلة. وتتطلب جريمة التحيل لقيامها ركنين أساسيين: ركن مادي يميزها عن بعض الجنح الشبيهة و عنصر معنوي واجب التوفر في هذه الجنحة كوجوب توفره في بقية الجنح القصدية.
أ- الركن المادي لجريمة التحيل شرط أساسي لوصفها:
جاء بالفصل 291 من م ج انه « يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام و بخطية قدرها ألفان وأربعمائة دينار كل من استعمل اسما مدلسا أو صفات غير صحيحة أو التجأ للحيل والخزعبلات التي من شأنها إقناع الغير بوجود مشاريع لا أصل لها في الحقيقة أو نفوذ أو اعتماد وهمي أو التي من شأنها بعث الأمل في نجاح غرض من الأغراض أو الخوف من الإخفاق فيه أو وقوع إصابة أو غيرها من الحوادث الخيالية ويكون قد تسلم أو حاول أن يتسلم أموالا أو منقولات أو رقاعا أو ممتلكات أو أوراق مالية أو وعودا أو وصولات أو إبراءات واختلس بإحدى هذه الوسائل أو حاول أن يختلس الكل أو البعض من ثروة الغير ». ويستنتج من خلال الفصل المذكور إطناب المشرع في الأفعال المكونة للركن المادي لجريمة التحيل فالركن المادي لجريمة التحيل يتكون من ثلاثة عناصر :
1– استخدام وسيلة من وسائل الخداع المنصوص عليها بالفصل 291 م ج وهي :
– استعمال اسم مدلس أو صفة غير صحيحة.
– استعمال الحيل والخزعبلات.
2– تحقيق طرق الخداع لإحدى الأغراض المنصوص عليها بالفصل 291 و هي:
– إقناع المجني عليه بوجود مشروع كاذب.
– إقناع المجني عليه بوجود نفوذ أو اعتماد وهمي
– بعث الأمل في نجاح غرض من الأغراض أو الخوف من إخفائه أو وقوع إصابة أو غيرها من الحوادث الخيالية.
3– الاستيلاء على مكاسب الغير وذلك بتسلم مال أو منقول ذي قيمة مالية أو عقود أو مقررات تثبت براءة الذمة.
فجميع هذه العناصر واجبة التوفر معا و في عدم توفرها أو اجتماعها يختل الركن المادي للجريمة.
ويميز هذا الركن المادي للجريمة التحيل عن جرائم أخرى تشكل اعتداءا على الملكية. فالتحيل يختلف مثلا عن السرقة في ان السارق يتولى اختلاس متاع الضحية رغم ارادتها أو دون علمها وفي غفلة منها في حين ان المتحيل يتوصل بالحيل والوسائل الخبيثة التي يستعملها إلى استدراج الضحية لكي تسلمه هي نفسها المال أو الشيء المستولى عليه.
كما ان التحيل يختلف كذلك عن خيانة المؤتمن في كون الجريمة الأخيرة تشترط وجود عقد من عقود الأمانة المحددة بالفصل 297 م ج تربط الجاني بالمجني عليه وضرورة تسليم الشيء محل الجريمة بصفة إرادية للجاني في حين ان التحيل لا يشترط لقيامه وجود عقد سابق يربط الطرفين كتلك الواردة بالفصل 297 م ج كما انه يقوم على استعمال طرق الخداع لتحقيق الأغراض المنصوص عليها بالفصل 291 م ج السابق التعرض إليها.
وقد أكدت محكمة التعقيب في احد قراراتها هذا الفرق فقد جاء في قرار دائرة التعقيب عدد 1149 المؤرخ في 10 ديسمبر 1932 ان التحيل كالسرقة وخيانة المؤتمن لا يقوم من أي فعلة كانت مخلة بالمروءة وبالشرف. فالجنحة المنصوص عليها بالفصل 291 من القانون الجنائي لا تتواجد إلا إذا توفرت في الفعلة الواقع التتبع لأجلها الشروط المبينة بغاية من الوضوح المحدودة بالعد بالنص المذكور. فالشرط الأول هو تسليم الشيء الواقع الاستيلاء عليه تحيلا من طرف المتضرر إلى مرتكب التحيل عن طيب خاطر وهذه الصفة تميز التحيل من السرقة التي يقع فيها تسليم الشيء بدون علم المتضرر وتقربه من خيانة المؤتمن التي تقع طوعا بخلاف التحيل فإنه ولو كان في التسليم اختيارا فإنه يقع بعد استعمال طرق المخادعة المنصوص عليها بالفصل 291.
واستعمال اسم مدلس أو صفات غير صحيحة كافي لوحده دون وجوب توفر أي وسيلة أخرى من الوسائل الواردة ضمن الفصل 291 إذا توصل بموجبه الجاني إلى تسلم أو محاولة تسلم أموال أو أشياء على ملك الضحية. أما الوسائل الأخرى الواردة ضمن الفصل 291 فإنه من الواجب عند استعمالها إثبات ان هذه الوسائل كان هدفها إقناع الغير بوجود مشاريع وهمية لا أصل لها في الحقيقة او نفوذ او اعتماد وهمي او التي من شأنها بعث الأمل في نجاح غرض من الأغراض او الخوف من الإخفاق فيه او وقوع إصابة او غيرها من الحوادث الخيالية، هذا المعطى له أهمية كبيرة في تحديد عناصر الإدانة من طرف القاضي ذلك انه إذا توفر بالملف ان المتهم قد استعمل اسما مدلسا او صفات غير صحيحة فإن القاضي غير ملزم بالبحث وراء ما يمكن ان يكون قد أحدثه ذلك لدى الضحية و هل كان لذلك تأثير في إقناعها بوجود مشاريع لا أصل لها في الحقيقة او نفوذ أو اعتماد وهمي ذلك ان استعمال اسم مدلس أو صفات غير حقيقية يتضمن ضمنيا سوء نية المتهم و يدل بوضوح على توجه نيته نحو التحيل على الضحية في حين انه و في حالة استعمال الوسائل الأخرى من الحيل و الخزعبلات فإنه من الواجب إثبات ان هذه الوسائل كان لها تأثير في إقناع الضحية بوجود مشاريع وهمية و بعث الأمل في نجاح غرض او الخوف من الإخفاق فيه وقوع إصابة او غيرها من الحوادث الخيالية.
و استعمال اسم مدلس أو صفات غير حقيقية أو بقية الوسائل لا يكفي لوحده لتكوين أركان التحيل بل يجب ان تكون هذه الوسائل قد استعملت لتحقيق هدف معين هو الاستيلاء على أموال الضحية و ان يكون استعمال الاسم المدلس او الصفة غير الحقيقية او الوسائل الأخرى هو العنصر المحدد في إقناع الضحية بتسليم هذه الأموال او هذه الرقاع. و قد اتخذ فقه القضاء الفرنسي موقفا نسبيا من استعمال اسم مدلس او صفات غير حقيقية او الحيل او الخزعبلات ذلك انه اعتبرها معاقب عليها اذا لم يكن بإمكان الضحية التفطن إليها من تلقاء نفسه وبسهولة أما إذا كانت مفضوحة ومن السهل التفطن إليها فإن الضحية تصبح غير محمية باعتبار ان القانون لا يحمي إلا من يحاول حماية نفسه.
ولم يعرف المشرع الصفات غير الحقيقية وهي الوسيلة الثانية للتحيل المعاقب على استعمالها في الفصل 291 م ج. وقد جاءت هذه العبارة عامة ومطلقة. فهل يجب فهمها على أنها الاتصاف بصفة غير حقيقية فقط مثل الذي يدعي انه طبيب أو رجل امن أو قاضي … أم هل يجب فهمها بصفة أوسع واعتبار ان الصفات غير الحقيقية هي كل ادعاء يدعيه الجاني في حالته المهنية أو الشخصية أو رتبته في المجتمع وبصفة عامة كل ما يدخل في تحديد هويته الشخصية والاجتماعية من جنسيته وانتمائه العائلي ومنصبه المهني؟ والأرجح هو الأخذ بالنظرية الثانية لكون المشرع قد أورد هذه العبارة دون تعريفها ودون تحديد معالمها. ويحق القول بأنه قد قصد إبقاء الحرية للقاضي في تحديد ملامح هذه « الصفات غير الحقيقية » بكل حرية و لكن الخطر في هذه النظرية يتمثل في إمكانية اعتبار مجرد الكذب الذي هو غير معاقب عليه من بين الأمور الداخلة ضمن بوتقة التجريم.
أما بالنسبة للحيل والخزعبلات وهي الوسيلة الثالثة من وسائل الخداع المنصوص عليها بالفصل 291 من المجلة فهي كذلك من الوسائل التي لم يقع تعريفها من المشرع الذي ترك هذا الدور للقضاء، وهو موقف أدى في بعض الحالات إلى الخلط بين التغرير المعاقب عليه جزائيا le dol criminel والتغرير المدني le dol civil الذي لا يترتب عليه عقاب جزائي والذي يستوجب التعويض المدني فقط. ولتفادي هذا الوضع اخضع المشرع التونسي الحيل والخزعبلات المعاقب عليها إلى توفر الأمور التالية :
– توفر بعض المناورات (manœuvres) المتمثلة في التمويه وان تتعدى هذه المناورات مجرد الكذب.
– ان تكون هذه المناورات تحيليّة (frauduleuses) بمعنى ان تكون متسمة بالخبث وسوء النية.
– ان يكون الهدف منها الإقناع بوجود مشاريع وهمية أو نفوذ أو اعتماد وهمي و هذا العنصر الأخير المتمثل في الهدف الذي ترمي إليه هذه الحيل والخزعبلات هو الفارق بين التغرير الجزائي المعاقب عليه بموجب الفصل 291 م ج والذي يطلق عليه اسم التحيل و بين التغرير المدني غير المعاقب عليه.
وقد أيد فقه القضاء ما ذهب إليه المشرع الذي اعتبر ان التحيل لا يتمثل في الحيل والخزعبلات و لكن في استعمال هذه الوسائل للوصول إلى الاستحواذ على أموال الغير أو محاولة ذلك. فقد جاء مثلا في قرار محكمة التعقيب عدد 57894 المؤرخ في 20 سبتمبر 1995 انه « يؤخذ من الفصل 291 م ج ان جريمة التحيل تتوفر بتوفر ثلاثة أركان : استعمال وسيلة من وسائل الخزعبلات التي نص عليها الفصل المذكور والتوصل باحدى الوسائل المذكورة إلى الاستيلاء على نقود أو قروض أو سندات الكل أو البعض من كسب الغير ووجود علاقة سببية بين تلك الوسائل والاستيلاء. وعدم استعمال أية وسيلة من وسائل الخداع و الخزعبلات وعدم الإيهام بمشاريع وهمية يجعل الجريمة المنصوص عليها بالفصل 291 من المجلة الجنائية غير متوفرة ». كما اعتبرت كذلك محكمة التعقيب في قرار أخر ان « الركن الجوهري لجريمة التحيل يتمثل في الخزعبلات التي يقوم بها مرتكبها في إيهام الغير بوجود أشياء لا وجود لها في الواقع » (قرار تعقيبي عدد 4058 المؤرخ في 30 افريل 1980). وقد تركت محكمة التعقيب في قراراتها مسألة تقدير هذه العناصر إلى السلطة التقديرية لقضاة الأصل واعتبرت « ان محكمة التعقيب لا تراقب فهم محكمة الموضوع للوقائع وتمحيص الأدلة وتقييمها ثبوتا أو نفيا وانتقاء منها ما يقنع الوجدان طالما كان رأيها معللا التعليل الكافي المقتبس من الأوراق الثابتة بالملف والمؤدية حتما للنتيجة التي انتهت إليها « . (قرار تعقيبي عدد 65816 مؤرخ في 23/10/1996 ن م ق ج سنة 1996 ص 130).
وتتجه الإشارة إلى ان المشرع لم يقدم تعريفا شاملا وكاملا للحيل والخزعبلات وان تحديدها يبقى رهين تعريفها حالة بحالة عند عرضها على القاضي لما تتسم به أعمال التحيل من تنوع و لما يتمتع به المتحيلون من خبث ومهارة، لكن القضاء مستقر على ان مجرد الكذب مهما كانت المهارة فيه ومهما كانت قوته الاقناعية لا تتكون منه الحيل والخزعبلات ولو كان الهدف منه الاستحواذ على مال الغير ذلك ان ما يعاقب عليه الفصل 291 م ج هو المناورات والأفعال الخارجية المكونة للخزعبلات و العمليات المادية والتمويه والإخراج المسرحي الذي يساهم في إقناع الغير بوجود مشاريع وهمية او نفوذ او اعتماد وهمي. وقد جاء عن محكمة التعقيب في هذا السياق ان « مجرد الكذب الذي لم يكن مصحوبا بالطرق الاحتيالية التي ضبطها الفصل 291 من القانون الجنائي لا يكفي لتكوين جريمة التحيل ». (قرار تعقيبي عدد 5192 مؤرخ في 4 جانفي 1967 ن م ت ق ج عدد 1 لسنة 1967 ص 73) واعتبرت كذلك انه « تقوم جريمة التحيل باستعمال الخزعبلات التي نص عليها الفصل المذكور بيد أن تلك الطرق الاحتيالية لا تتحقق قانونا بمجرد الأقوال الكاذبة و لو كان قائلها قد بات في تأكيد صحتها حتى تأثر بها المعتدى عليه وانخدع به اذ ان اقل ما يتطلبه القانون من كل إنسان ان لا ينخدع بمجرد الأقوال الكاذبة ولا تكون الخزعبلات التي اشترطها القانون في هذا الباب متوافرة إلا إذا اصطحب بأعمال مادية او بمظاهر خارجية تكسبها لون الحقيقة « . (قرار تعقيبي عدد 2154 مؤرخ في 19 جوان 1963 ن م ت ق ج عدد 1 لسنة 1963 ص 119).
ب- الركن المعنوي للجريمة : سوء نية المتحيل
لا تختص جريمة التحيل بهذا الركن من اركان التجريم فهي كبقية الجنح القصدية تستوجب وجود هذا العنصر المعنوي لدى مرتكبها وسوء النية في هذه الحالة هو ان يأتي الجاني الأفعال المجرمة مع علمه بكونه يقوم بما جرمه الفصل 291 م ج وفي الظروف التي جرمها. فالجاني يجب ان يكون قد اعد العدة وقام بالتخطيط لإقناع المجني عليه بوجود مشاريع وهمية لا أصل لها في الحقيقة او نفوذ او اعتماد للوصول إلى الاستيلاء على أموالها فتسلم منقول على سبيل المزاح وإرجاعه لصاحبه مثلا لا تكون معه جريمة التحيل متوفرة. ويعبر عن هذا الركن كذلك بالقصد الجنائي فلا يتكون التحيل بحسب فقه القضاء إلا إذا ثبت ان من صدر منه ذلك كان يقصد التحصيل على أرباح غير قانونية (قرار دائرة التعقيب عدد 937 مؤرخ في 23 ديسمبر 1930). لكن يفقد التحيل إذا كان البائع وقت البيع لم يقصد تغليط معاقده (قرار تعقيبي عدد 1153 مؤرخ في 31 افريل 1933) كما اعتبرت محكمة التعقيب كذلك في قرارها عدد 46625 الصادر في 16 جوان 1993 ان عدم إبراز القصد الجنائي للمتهم و الذي يعتبر من الأركان القانونية لجريمة التحيل يجعل القرار المنتقد مخالفا لأحكام الفصل 168 من م ا ج ومستوجبا للنقض ». وقد وصفت محكمة التعقيب هذا الركن المعنوي لقيام جريمة التحيل بـ »النية الخبيثة » (قرار دائرة التعقيب عدد 957 المؤرخ في 23 ديسمبر 1939). وقد ذهب البعض إلى حصر الركن المعنوي في حقيقة الأضرار الناتجة عن التسليم وهو ركن يوجب الإثبات ويبقى خاضعا لاجتهاد المحكمة تستنتجه من الطرق الاحتيالية المستعملة ولا رقابة عليها في ذلك من محكمة التعقيب. وقد اعتبرت محكمة التعقيب في احد قراراتها ان محكمة الموضوع عندما فصلت في الجنحة المعروضة عليها فإنها وحسب أسانيد الحكم قد تفحصت الوقائع من الناحية القانونية ثم أجرت التكييف القانوني المنطبق وأنزلت حكم القانون على مقتضى ذلك التكييف الذي كان معللا مستساغا من حيث الواقع والقانون ومن حيث الاستناد إلى ماله أصل ثابت بالملف الأمر الذي يجعل قضائها سليما (قرار تعقيبي عدد 65204 مؤرخ في 25 سبتمبر 1996 ن م ت ق ج لسنة 1996 ص 124) .
[1] وقد جاء بالفصل الأول من مجلة القانون الدولي الخاص » تحدد أحكام هذه المجلة بالنسبة للعلاقات الدولية الخاصة:
1-الاختصاص القضائي للمحاكم التونسية
2-آثار الأحكام والقرارات الأجنبية بالبلاد التونسية
3-حصانة التقاضي والتنفيذ
4-القانون المنطبق ».
[2] عنوان الكناب الرابع من مجلة الإجراءات الجزائية.
Quel genre d’hommes penserait qu’il est acceptable de soumettre une jeune fille à ce niveau de brutalité et de violence ? une attaque comme celle-ci dans nos communautés et nous devons tous travailler ensemble.